ان الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستهديه ونستفغره فانه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين فاننى اتناول اليوم موضوع فوائد البنوك وهو مبحث مهم للغاية ، ذلك أن الله تعالى قد لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) رواه مسلم ، فتناول اللعن كل من له صلة أو علاقة بالربا ، و قال تعالى : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وقال { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } ، فهذا يدل على أن الربا خطره عظيم ، وضرره جسيم .
هذا وينقسم الربا إلى قسمين : ربا الديون وربا البيوع .
ربا الديون :
وهو الذي تمارسه البنوك الربوية ، وهو القرض الذي يجر منفعة ، وتقوم عليه البنوك الكبرى ، والقاعدة العامة في الشريعة " كل قرض جر نفعا فهو ربا " ، والقرض يجب أن لا يكون معه أي نفع بل بذل مجاني ، ومحض إحسان ، حتى لو كان النفع بعقد ثان مقرون بعقد القرض ، فإنه ربا ، ومثاله :
*** نبيعك الأرض بالدين بشرط أن نكون نحن الذين نبنيها لك ، وهذا لا يجوز لأنه جر نفعا .
*** ومن الأمثلة المعاصرة المثيرة للجدل ، بطاقة الائتمان التي فيها سحب على المكشوف بمعنى أنه لا يكون ثمة رصيد عندك ، فهم يدينونك من مال البنك ، إذا سحبت في حال لم يكن رصيدك فيه شيء ـ أو يكون لديك رصيد ولكن السحب لا يكون من رصيدك فورا وإنما من شركة الفيزا بالتعاون مع البنك ـ ثم إذا نزل راتبك ، أو لاحقا ، سحبوا منه ما أقرضوك ، وأخذوا زيادة وقالوا هذه عمولة .
ثم هم فوق ذلك ينتفعون أيضا من جهة أخرى ، حيث تبقى أموالك عندهم يستثمرونها فلو لم تكن أموالك عندهم لم يعطوك هذا الدين ، فهم إذن إنما أعطوك مقابل نفع لهم ، وهناك نوع آخر من النفع ، وهو الاشتراك السنوي لهذه الفيزا ، فلو فرضنا أن مائة ألف شخص ، دفعوا ستين جنيها، فالمجموع هو ستة ملايين جنيها سنويا !
وهو مبلغ كبير انتفع به البنك وأعطاك بطاقة يمكن أن تستدين بها ، فهل هذا كله ، من باب النفع الذي يأتي به الدين ، وبالتالي تكون بطاقة الائتمان التي تمكن العميل من السحب على المكشوف محرمة أم هي عمولة مقابل تسهيل الوصول إلى المال في هذا العالم المعقد ، هذه مسألة نازلة اختلف فيها العلماء ، وهي بحاجة إلى بحث .
*** وعلى أية حال ، هذا هو ربا الديون ، والبنوك الربوية إنما تقوم على ربا الديون ، يودع الزبائن الأموال في صورة دين ويأخذون عليه فائدة سنوية ، وإذا أرادوا قرضا يعطيهم البنك ويأخذ فوائد فاحشة .
ومن الناس من يقول نحن نضع أموالنا عندهم ، وبعد سنة يعطوننا زيادة على أموالنا خمسة بالمائة مثلا ، فلا يوجد استغلال كما يوجد في الربا ، وإنما هي الفائدة والمصلحة ، فلماذا تحرمون التعامل مع البنك الربوي ؟؟
*** والجواب أن البنك الربوي له وجهان :
1. وجه قبيح شيطاني .
2. وآخر جميل في الصورة الظاهرة فقط
ولكل وجه نافذة يستقبل بها العملاء ، فالوجه الحسن يستقبل به من يضعون أموالهم يبتغون بذلك الفائدة ، وفي النافذة الأخرى الوجه القبيح الذي يدين به المحتاجين إلى القروض .
فمن يريد سيارة فاخرة ـ مثلا ـ أو بيتا واسعا أو يختا ، على سبيل المثال يعطيه البنك قرضا ، ويأخذ منهم فوائد عالية تصل إلى ثمانين بالمائة ! ثم يعيد يزيد الفوائد كلما تأخر السداد ، ثم يعيد الجدولة إن طلب العميل ذلك ، ويضاعف الفوائد أضعافا مضاعفة ، ولو تخلف في الدفع ذهب إلى السجن !
بينما يعطي البنك المودعين خمسة بالمائة كل سنة فقط ، فيعتقد هؤلاء أن البنك لا يصنع إلا المعروف .
وواقع الحال أن البنك الربوي إنما يأكل الربا أضعافا مضاعفة ، من جهة ، ويعطي النزر اليسير منه من جهة أخرى .
ثم هو أيضا يضع أموال المودعين ، في بنوك ربوية عالمية ويأخذ عليها ، فوائد بمقدار خمسة عشر بالمائة مثلا ، ثم يعطي المودعين خمسة ويأخذ عشرة ، فالبنك الربي كالشخص الجشع ، الذي يمتص دماء الناس ، ويكون ثروة بالديون بفائدة فقط ، دون أن يسهم في توفير فرص عمل أو مشاريع .
وبتتبع التاريخ علم أن الذين أتوا بفكرة البنك الربوي ، هم اليهود وهم أهل الربا ، قال تعالى : { وأكلهم الربا وقد نهوا عنه } ، وقال : { سماعون للكذب أكالون للسحت } ، فغذاء عقولهم الكذب وغذاء قلوبهم السحت .
ويقال أن الفكرة بدأت في ألمانيا ، حين فكر اليهود هناك ، بأن التجار والمزارعين لديهم أموال يضعونها في البيوت ، فلو جمعناهــــا في مكان واحد عندنا ( المصرف ) وحفظناها لهم ونعطيهم عليها فوائد قليلة آخر السنة ، واستفدنا من بقاءها لدينا بأن ندين المحتاجين بفائدة أعلى ونأخذ الفرق لنا .
ثم أعلنوا للناس أن لدينا أموالا للقروض ، فمن أراد أن يفتح مشروعا ويستدين فليأتنا ونضع عليه فائدة ، ثم جاء الناس يأخذون الديون ، ويرهنون البيوت وكلما تأخروا زادوا عليهم بجشع اليهود ، فإذا جاء آخر العام جاء من وضع أمواله لديهم من التجار ، فقالوا له إن مالك قد زاد زيادة خمسة بالمائة ، فيفرح بذلك ، ويبقى ماله لديهم ، وهم إنما استفادوا من ماله ، بإقراض المحتاجين بفائدة ، وجعلوها لهم ، وهكذا أصبحوا أثرياء بطريق الربا ، ثم انتشرت هذه الفكرة حتى صار الربا جزءا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي العالمي وجعلوه مبنيا على الربا .
وهتلر الطاغوت ، في كتابه كفاحي ذكر هذه الحقيقة ، فقال أن اليهود دمروا ألمانيا بالربا والدعارة ، وهذا من باب شهد شاهد من أهلها ، فملة الكفر واحدة.
وربا الديون قد يمارس بشكل واضح ، وقد يمارس بالحيل .
وثمة حيل عديدة على الربا :
فمثلا رجل عنده شيك مؤجل بسبعين ألفا ، فتأتي شركة وتعمل كوسيط ، وتقول نحن نعطيك ستين ألفا وحول علينا الشيك الذي هو مستحق لك على الغير ، ولا تنتظر مدة التأجيل ، وهي حيلة على الربا ، فكأنهم يعطونه ستين ألفا ، ويستردوها سبعين ألفا ، وهذا هو الذي يسمى خصم الأوراق التجارية ، وهو ربا ، ولذلك لا تفعله البنوك الإسلامية .
وكذلك المداينة وهي تشبه العينة – والعينة أن يبيع شخص لآخر بأجل ثم يشتري السلعة منه حالا بسعر أقل – ففي المداينة يدخل طرف ثالث ، فيشتري الأول من الثاني مؤجلا ، ثم يبيعه لثالث حالا بثمن أقل .
ومن ذلك العينة الثلاثية ، وهي منتشرة بين الناس ، مثل أن يذهب اثنان للبنك فيتظاهرا بأن أحدهما باع الآخر سيارة ، ثم ترد لصاحبها ، ويأخذ قيمة الشيك ممن تظاهر أنه باع السيارة على البنك الإسلامي ، ويبقى على المشتري الأقساط التي هي أكثر من النقد الذي استلمه .
وثمة حيل أخرى منها أن يبيعك شيئا مع الدين ، فيداينك مبلغا ، ويبيعك مع الدين قلما بمائة دينار والثمن مؤجل ، والقلم لا يساوي دينارا ! ويقول هذا دين وبيع وهو في الحقيقة حيلة على الربا .
ومن الحيل الأخرى شركة هبتكو ، وتدعي أنها تعمل بالألبان فتأخذ أموالك وتعمل فيها وتعطيك 8% من رأس مالك الذي أعطيتهم ، إن أردت استرجاع مالك بعد الشهر الأول ، و25% في الثاني و60% في الثالث و100% بعد ثمانية أشهر .
وهذا شيء غير معقول ، ولابد أن في الأمر سرا ما ، والذي أشكل على الناس أنهم يمنحونك نسبة ، فظنوا أن هذا جائز ، وهم إنما يمنحونك نسبة من رأس المال لا من الربح فهو كالدين بفائدة ، بالإضافة أنهم يجعلون أموالهم في بنوك أوروبية تمنحهم أرباحا عالية بعد أشهر ، ومن غرائب شأنهم ، أنهم يشترطون أن لا يكون التحاكم إلا في مصر أو الكويت حيث القانون يصير من بعض الوجوه في صالح من يعلن إفلاسه ، وقد قيل أن لهم نشاطا في غسيل الأموال أيضا ، والحقيقة أنها شركة ربوية ، وأما ادعاؤها أنها تستثمر أموال المشتركين في التجارة ، فهو غطاء فقط.
ربا البيوع :
وينقسم إلى قسمين : ربا الفضل ، وربا النسيئة .
ولابد أن نقدم هذه المقدمة حتى نفهم ربا البيوع بقسميه .
ربا البيوع : هو ربا يجري عند التبايع بين أصناف محددة من الأموال ، تسمى الأموال الربوية ، وليس معنى الأموال الربوية هنا ، أي المحرمة لأنها كسب ربوي ، بل المعنى أن ربا البيوع يجري فيها إن تم التبايع فيما بينها بطريقة غير شرعية ، وحتى نعرف الطرق الشرعية للتبايع بين هذه السلع التي هي الأموال الربوية ، أولا نقسم الأموال إلى قسمين :
أحدهما : الأموال الربوية : وهي التي يجري فيها ربا البيوع .
الثاني : الأموال غير الربوية : وهي التي لا يجري فيها ربا البيوع ، وهي كل ما عدا الأموال الربوية .
وتنقسم الأموال الربوية إلى مجموعتين .
فلنسم المجموعة الأولى مجموعة ( أ )
أ – وهي تضم ما يلي :
الذهب ، الفضة ، الأوراق النقدية ، والعلة التي جمعت بين هذه الأصناف هي الثمنية أي كونها أثمانا للسلع ، ولهذا فكل عملة هي صنف مستقل ، فهذه المجموعة كبيرة العدد.
والقاعدة التي يجب أن تتبع هنا هي :
**** أنه إذا كان البيع بين نفس الصنف ( ذهب بذهب ، فضة بفضة ) وجب أن يكون الطرفان ، متماثلين بالوزن ، ووجب أيضا التقابض يدا بيد أيضا .
*** فإن عدم شرط التماثل ، سمى البيع ربا الفضل .
*** وأما إذا كان البيع بين صنفين مختلفين لكنهما من داخل المجموعة ( ذهب بفضة ، دينار بجنيه ، ذهب بدينار ، فضة بجنيه ) وجب التقابض يدا بيد ، ولا يشترط التماثل
*** وإن عدم شرط التقابض سمي البيع ربا النسيئة .
ولنسم المجموعة الثانية مجموعة ( ب )
وهي تضم :
الملح ، التمر ، البر ، الشعير ( والعلة هي مجموع الكيل أو الوزن مع الطعم ، فكل ما تنبته الأرض مما يكون فيه هذه العلة فهو داخل في هذه المجموعة )
وتجري هنا القاعدتان السابقتان في التبايع داخل هذه المجموعة أيضا .
**** أما عند التبايع بين أصناف المجموعتين ، أي صنف من المجموعـــــة ( أ) وصنف من المجموعة (ب) فلا يشترط التماثل في الوزن ، ولا يشترط التقابض في المجلس .
***فإن قال قائل : إذا أردت أن تشتري تمرا من نوع "خلاص" مثلا بتمر رديء ، فلابد أن يختلف الوزن أو الكيل في هذه الحالة ، فنقول : بع الأول بالأوراق النقدية ، ثم ابتع الصنف الثاني بالثمن الذي قبضته من بيع الصنف الأول الجيد حتى تخرج من الربا .
*** وقد يقول قائل عندي ذهب قديم وأريد جديدا ، فنقول لا يصح التبايع بين الذهب والذهب إلا بالتساوي ، أو تبيع القديم بنقد ثم تشتري بالنقد الجديد ، ولو شرط البائع أن لا تشتري إلا من عنده لم يصح أيضا .
*** وهنا مسألة مشهورة : وهي هل يجوز شراء الذهب بالفيزا إذا كانت القيمة تخصم فورا من حساب المشتري ، فنقول : نعم إذا كان يخصم فورا ، فكأنه تقابض .
وكذلك ترد مسألة الحوالات للعملات بين الدول ، فمن يريد تحويل الدينار إلى جنيه في مصر ، وتصل إلى مصر بعد يومين أو أكثر ، فهل يصح ذلك مع أننا نعلم أنه يشترط التقابض في المجلس ؟ لأنهما مشتركان في علة الربا فكلاهما من نفس المجموعة التي علتها الثمنية ؟
قال بعض العلماء أن الحوالة لا تصح ، ولكن الحاجة ملحة ، وهي حاجة عامة ، فتنزل منزلة الضرورة .
ولا ريب أن هذا صحيح ، ذلك أن بعض الدول يقوم اقتصادها على تحويل العملة من الخارج .
وقال بعض العلماء أن هذه العملية وهي الحوالة ، تتضمن صرفا أي تبايعا بين عملتين ، وتوكيلا من أحد الطرفين للطرف الآخر ، أو استئجارا له ، بالقيام بإرسال العملة التي اشتراها ، إلى بلد أخر مقابل عمولة ، فهي عملية جائزة لا إشكال فيها ، من يأخذ منك الدينار ثم يحوله إلى جنيه فكأنك قبضت الجنيه ، ثم وكلته عنك في توصيل هذا المال إلى بلدك ، وهذا تخريج صحيح ويرفع الحرج خاصة في هذا الزمان ، إن شاء الله تعالى .
*** ومثال آخر : لديك بطاقة ائتمان ( فيزا ) وسافرت وانقطع بك السبيل ، فيمكنك أن تسحب على بطاقتك على المكشوف من عملة ثانية ، فيعطونك بالدولار ثم يأخذون من رصيدك بالدينار مع فارق العملة ويعتبرونه بيعا ، فهل حصل التقابض هنا ، ومن أهل العلم من قال إن هذه العملية ، مركبة من أن المصرف يداينك الدنانير ثم يقوم بالصرف مع البنك الذي سحبت منه بالفيزا ، ويتوكل عنك في هذا البيع ، وتستلم أنت العملة الأخرى ، ثم يأتي فيما بعد ، ويقبض دينه ، ويأخذ أجر وكالته ، فأجازوه من هذا الباب .
*** كما أثيرت هنا مسألة شراء الذهب بالشيك ، ولكن الشيك لا يفي بشرط التقابض ، فإنه لو كان بغير رصيد لا يستفيد منه ، وإنما يحب التقابض بالمال والشيك ليس مالا بل ورقة تأخذ بموجبها المال ، ولذا فشراء الذهب بالشيكات لا يجوز .
*** لكن بعض الناس يقول : يمكن لصاحب محل الذهب أن يتصل بالبنك ، ويتأكد من وجود رصيد للشيك ، ويحجز المبلغ من رصيد العميل لصالحه ، بالاتفاق مع البنك على طريقة يتم بها ذلك ، ففي هذه الحالة نقول يجوز ، ويكون بمثابة التقابض.
**** وأما التبايع بين الأموال الربوية وغير الربوية فلا يشترط أيضا التماثل في الوزن ولا الكيل ولا التقابض في المجلس ، مثلا تشتري سيارات بأوراق نقدية ، أو تشتري ثياب بذهب ، وأكثر التبايع إنما يكون في هذه الدائرة التي لايجري فيها ربا البيوع .
**** وكذلك داخل الأموال غير الربوية : وهي كل الأموال غير الأموال الربوية ، كالخام والطابوق والسيارات والفاكهة وغيرها ، كلها لا يشترط بينها ، التماثل ولا التقابض .
* ويرد سؤال : هل هناك أموال نضيفها على الأموال الربوية أم هي مقصورة على هذه الأصناف الستة ؟
هناك أقوال عدة لأهل العلم :
1- مذهب الظاهرية أنها الأصناف الستة فقط ( الذهب ، الفضة ، البر ، الشعير ، التمر ، الملح ).
2- قال بعض العلماء كل ما يجري فيه الكيل يضاف إلى الأصناف الأربعة البر الشعير والتمر والملح ، وقال بعضهم ما يجري فيه الوزن ، وقال غيرهم كل مطعوم .
3- وبعضهم كالأحناف زاد فقال كل خارج من الأرض .
4- ومنهم من قال مجموع الكيل أو الوزن مع كونها مطعومة ، فيدخل هنا في المجموعة ب : الأرز والفول والعدس والذرة والسكر والعسل والحليب ، فهي مكيلة أو موزونة مطعومة .
أما علة جريان الربا في المجموعة ( أ ) فهي الثمنية ، فكون الذهب والفضة أثمانا للأشياء أجرى فيها الربا ، ولذا قيل إن الأوراق النقدية أيضا أثمان فيجري فيها الربا ، وهذا هو الصحيح ، وقد اتفق عامة فقهاء العصر على أن الأوراق النقدية ، تقاس على الذهب والفضة ، وتجري عليها أحكامها في الزكاة والربا ، وهذا هو الصحيح الذي لا يستقيم سواه .
وأحكام ربا البيوع ، مأخوذة من حديث أبي سعيد الخدري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء فمن زاد أو استزاد فقد أربى ) وفي رواية ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ) ، رواه البخاري هذا مع اشتراكهم في علة الربا في نفس المجموعة والله أعلم .
*****
وهنا قاعدة مهمة جدا في باب الربا وهي : أن الجهل بالتماثل بمنزلة العلم بالتفاضل .
وهذا يعني أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( ... مثلا بمثل سواء بسواء ) في البيع بين أفراد الصنف الواحد ، أن جهلنا بكونهما متساويين ، هو كعلمنا بتفاضلهما .
ونذكر بعض الأمثلة :
المثال الأول : بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه لا يجوز .
المثال الثاني : بيع الرطب باليابس من جنسه ( المزابنة ) لا يجوز .
ومثاله بيع التمر بالرطب ، والزبيب بالعنب ، فلا يجوز حتى عند التماثل ، لأنهما في الحقيقة تماثل في الظاهر ، ولكنهما غير متماثلين ، فأحدهما معه من غير جنسه عندما يكون رطبا ، فإن معه الماء .
المثال الثالث : بيع اللحم باللحم بعظمه لا يجوز ، وقد ورد النهي عن بيع الحيوان باللحم لهذا السبب.
ذلك أن وجود العظم يؤدي إلى عدم العلم بالتماثل ، وكذا الرطب باليابس ، فلا يعلم تساويها ، فهو كعلمنا بتفاضلهما ، وحتى لو قلنا نزيد العنب قليلا فلا سبيل لمعرفة التماثل بالضبط .
ولكن هنا استثناء مهم ، وهو استثناء بيع التمر بالرطب فقط ، حيث كان التمر هو القوت الأساسي في زمن النبوة ، كما قالت عائشــــــــة رضي الله عنها : ( والله يا ابن أختي ! إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ؛ ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقد في أبيات رسول الله نار .قلت :يا خالة ! فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء ، إلا أنه كان لرسول الله جيران من الأنصار ، وكانت لهم منايح ، فكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقيناه ) [ متفق عليه ] ، وتأملوا يا أخواني أولئك الرجال الذين كان أكثر طعامهم التمر والماء ، كما ورد في الأثر : ( كنت جالساً مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق ، فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب فنزلوا ، قال حميد : فقال أبو هريرة : اذهب إلى أمي وقل لها : إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئاً، قال: فوضعت ثلاثة أقراص من شعير وشيئاً من زيت وملح في صحفة، فوضعتها على رأسي، فحملتها إليهم، فلما وضعته بين أيديهم، كبر أبو هريرة وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودان؛ التمر والماء، فلم يصب القوم من الطعام شيئاً ! فلما انصرفوا قال: يا ابن أخي! أحسن إلى غنمك ، وامسح الرغام عنها، واطلب مرشكراا، وصل في ناحيتها؟ فإنها من دواب الجنة، والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان ، تكون الثلة من الغنم، أحب إلى صاحبها من دار مروان ) [رواه البخاري في الأدب المفرد] ، كيف أن أولئك الرجال الذين كان هذا طعامهم فتحوا الدنيا وملؤها نورا وعلما وهدى .
والمقصود أن الرطب أحسن من التمر ، ومن الناس من لديه التمر ويريد الرطب وليس لديه نقود ، فهنا حاجة ماسة للحصول على الرطب وهي حاجة عامة .
فرخصت الشريعة ببيع التمر بالرطب في ما يطلق عليه (العرايا ) ، وهي أن يشترى التمر بالرطب على النخل ، يخرص فيجعل مقابل وزنه تمرا ، بشرطين :
الأول : الحاجة فلا تباع لغني ولكن لم يحتاج إلى أكلها رطبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص بها لأهل الحاجة ، الثاني : أن يكون أقل من خمسة أوسق ، ولا يجوز التفرق قبل القبض أيضا .
وفي ذلك ورد حديث سهل بن أبي حثمة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبا ) [ متفق عليه ].
وعن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق ) [ متفق عليه ]
وهنا مسألة مشهورة عند الفقهاء ، وهي مسألة ( مد عجوة ودرهم ) ويطلق عليها الفقهاء ( بيع ربوي بجنسه ، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ).
ومثاله : يبع مد تمر مثلا " والمد مقدار من كيل " ودرهم ، مقابل درهمين
يقول العلماء : لم يتميز ما يقابل الدرهم من جميع الدرهمين ، ولا ما يقابل المد ، وإنما الجملة مقابل الجملة ، فلاتحصل المماثلة بين الجنسين ، بما يقابل كل جنس من جنسه .
وكذلك يجري هذا الإشكال في : بيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم ؟ أو كيلو من التمر ودينار ذهب بمثلهما ؟
قال أهل العلم يحرم هذا لأنه يدخل في قاعدة الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل ، وحسما لمادة الربا ، فهو يفتح باب التحايل .
وقد ورد في ذلك حديث فضالة ( أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب ، وخرز اشتراها رجل بتسعة دنانير ، أو سبعة ، فقال صلى الله عليه وسلــم : لا ، حتى تميز بينهما ، قال : فرده حتى ميز بينهما ) [ رواه أبو داود ] ، ولمسلــــم ( أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع حده ، ثم قال : الذهب بالذهب وزنا بوزن ) .
ولكن يوجد رواية عن الإمام احمد ـ وقد اختارها شيخ الإسلام ـ أن المفرد إذا كان أكثر من الذي معه غيره ، فإن ذلك جائز ، وكذلك إذا كان مع كل واحد منهما من غير جنسه وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقد سئل شيخ الإسلام عن بيع الاكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية ، مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب ، بل فضة هذه الدراهم أكثر ، هل يجوز المقابضة بينهما ؟ أم لا ؟
فأجاب : هذه المقابضة تجوز في أظهر قولي العلماء ، والجواز فيه له مأخذان : بل ثلاثة :
أحدهما : إن هذه الفضة معها نحاس ، وتلك فضة خالصة ، والفضة المقرونة بالنحاس أقل ، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين ، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة ( مد عجوة ) كما مذهب أبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين .
ثم ذكر حديث القلادة الآنف الذكر و قال :
وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي ، بل يخرص خرصا ، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين ، وفيها خرز معلق بذهب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لاتباع حتى تفصل ) فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل ، لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون ، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله ، وزيادة خرز ، وهذا لا يجوز .
وإذا علم المأخذ ، فإذا كان المقصود ببيع دراهم بدراهم مثلها ، وكان المفرد أكثر من المخلوط ، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة ، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط ، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء ، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها ، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك فيجوز التفاوت " [مجموع الفتاوى 29/454]
هذا وينقسم الربا إلى قسمين : ربا الديون وربا البيوع .
ربا الديون :
وهو الذي تمارسه البنوك الربوية ، وهو القرض الذي يجر منفعة ، وتقوم عليه البنوك الكبرى ، والقاعدة العامة في الشريعة " كل قرض جر نفعا فهو ربا " ، والقرض يجب أن لا يكون معه أي نفع بل بذل مجاني ، ومحض إحسان ، حتى لو كان النفع بعقد ثان مقرون بعقد القرض ، فإنه ربا ، ومثاله :
*** نبيعك الأرض بالدين بشرط أن نكون نحن الذين نبنيها لك ، وهذا لا يجوز لأنه جر نفعا .
*** ومن الأمثلة المعاصرة المثيرة للجدل ، بطاقة الائتمان التي فيها سحب على المكشوف بمعنى أنه لا يكون ثمة رصيد عندك ، فهم يدينونك من مال البنك ، إذا سحبت في حال لم يكن رصيدك فيه شيء ـ أو يكون لديك رصيد ولكن السحب لا يكون من رصيدك فورا وإنما من شركة الفيزا بالتعاون مع البنك ـ ثم إذا نزل راتبك ، أو لاحقا ، سحبوا منه ما أقرضوك ، وأخذوا زيادة وقالوا هذه عمولة .
ثم هم فوق ذلك ينتفعون أيضا من جهة أخرى ، حيث تبقى أموالك عندهم يستثمرونها فلو لم تكن أموالك عندهم لم يعطوك هذا الدين ، فهم إذن إنما أعطوك مقابل نفع لهم ، وهناك نوع آخر من النفع ، وهو الاشتراك السنوي لهذه الفيزا ، فلو فرضنا أن مائة ألف شخص ، دفعوا ستين جنيها، فالمجموع هو ستة ملايين جنيها سنويا !
وهو مبلغ كبير انتفع به البنك وأعطاك بطاقة يمكن أن تستدين بها ، فهل هذا كله ، من باب النفع الذي يأتي به الدين ، وبالتالي تكون بطاقة الائتمان التي تمكن العميل من السحب على المكشوف محرمة أم هي عمولة مقابل تسهيل الوصول إلى المال في هذا العالم المعقد ، هذه مسألة نازلة اختلف فيها العلماء ، وهي بحاجة إلى بحث .
*** وعلى أية حال ، هذا هو ربا الديون ، والبنوك الربوية إنما تقوم على ربا الديون ، يودع الزبائن الأموال في صورة دين ويأخذون عليه فائدة سنوية ، وإذا أرادوا قرضا يعطيهم البنك ويأخذ فوائد فاحشة .
ومن الناس من يقول نحن نضع أموالنا عندهم ، وبعد سنة يعطوننا زيادة على أموالنا خمسة بالمائة مثلا ، فلا يوجد استغلال كما يوجد في الربا ، وإنما هي الفائدة والمصلحة ، فلماذا تحرمون التعامل مع البنك الربوي ؟؟
*** والجواب أن البنك الربوي له وجهان :
1. وجه قبيح شيطاني .
2. وآخر جميل في الصورة الظاهرة فقط
ولكل وجه نافذة يستقبل بها العملاء ، فالوجه الحسن يستقبل به من يضعون أموالهم يبتغون بذلك الفائدة ، وفي النافذة الأخرى الوجه القبيح الذي يدين به المحتاجين إلى القروض .
فمن يريد سيارة فاخرة ـ مثلا ـ أو بيتا واسعا أو يختا ، على سبيل المثال يعطيه البنك قرضا ، ويأخذ منهم فوائد عالية تصل إلى ثمانين بالمائة ! ثم يعيد يزيد الفوائد كلما تأخر السداد ، ثم يعيد الجدولة إن طلب العميل ذلك ، ويضاعف الفوائد أضعافا مضاعفة ، ولو تخلف في الدفع ذهب إلى السجن !
بينما يعطي البنك المودعين خمسة بالمائة كل سنة فقط ، فيعتقد هؤلاء أن البنك لا يصنع إلا المعروف .
وواقع الحال أن البنك الربوي إنما يأكل الربا أضعافا مضاعفة ، من جهة ، ويعطي النزر اليسير منه من جهة أخرى .
ثم هو أيضا يضع أموال المودعين ، في بنوك ربوية عالمية ويأخذ عليها ، فوائد بمقدار خمسة عشر بالمائة مثلا ، ثم يعطي المودعين خمسة ويأخذ عشرة ، فالبنك الربي كالشخص الجشع ، الذي يمتص دماء الناس ، ويكون ثروة بالديون بفائدة فقط ، دون أن يسهم في توفير فرص عمل أو مشاريع .
وبتتبع التاريخ علم أن الذين أتوا بفكرة البنك الربوي ، هم اليهود وهم أهل الربا ، قال تعالى : { وأكلهم الربا وقد نهوا عنه } ، وقال : { سماعون للكذب أكالون للسحت } ، فغذاء عقولهم الكذب وغذاء قلوبهم السحت .
ويقال أن الفكرة بدأت في ألمانيا ، حين فكر اليهود هناك ، بأن التجار والمزارعين لديهم أموال يضعونها في البيوت ، فلو جمعناهــــا في مكان واحد عندنا ( المصرف ) وحفظناها لهم ونعطيهم عليها فوائد قليلة آخر السنة ، واستفدنا من بقاءها لدينا بأن ندين المحتاجين بفائدة أعلى ونأخذ الفرق لنا .
ثم أعلنوا للناس أن لدينا أموالا للقروض ، فمن أراد أن يفتح مشروعا ويستدين فليأتنا ونضع عليه فائدة ، ثم جاء الناس يأخذون الديون ، ويرهنون البيوت وكلما تأخروا زادوا عليهم بجشع اليهود ، فإذا جاء آخر العام جاء من وضع أمواله لديهم من التجار ، فقالوا له إن مالك قد زاد زيادة خمسة بالمائة ، فيفرح بذلك ، ويبقى ماله لديهم ، وهم إنما استفادوا من ماله ، بإقراض المحتاجين بفائدة ، وجعلوها لهم ، وهكذا أصبحوا أثرياء بطريق الربا ، ثم انتشرت هذه الفكرة حتى صار الربا جزءا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي العالمي وجعلوه مبنيا على الربا .
وهتلر الطاغوت ، في كتابه كفاحي ذكر هذه الحقيقة ، فقال أن اليهود دمروا ألمانيا بالربا والدعارة ، وهذا من باب شهد شاهد من أهلها ، فملة الكفر واحدة.
وربا الديون قد يمارس بشكل واضح ، وقد يمارس بالحيل .
وثمة حيل عديدة على الربا :
فمثلا رجل عنده شيك مؤجل بسبعين ألفا ، فتأتي شركة وتعمل كوسيط ، وتقول نحن نعطيك ستين ألفا وحول علينا الشيك الذي هو مستحق لك على الغير ، ولا تنتظر مدة التأجيل ، وهي حيلة على الربا ، فكأنهم يعطونه ستين ألفا ، ويستردوها سبعين ألفا ، وهذا هو الذي يسمى خصم الأوراق التجارية ، وهو ربا ، ولذلك لا تفعله البنوك الإسلامية .
وكذلك المداينة وهي تشبه العينة – والعينة أن يبيع شخص لآخر بأجل ثم يشتري السلعة منه حالا بسعر أقل – ففي المداينة يدخل طرف ثالث ، فيشتري الأول من الثاني مؤجلا ، ثم يبيعه لثالث حالا بثمن أقل .
ومن ذلك العينة الثلاثية ، وهي منتشرة بين الناس ، مثل أن يذهب اثنان للبنك فيتظاهرا بأن أحدهما باع الآخر سيارة ، ثم ترد لصاحبها ، ويأخذ قيمة الشيك ممن تظاهر أنه باع السيارة على البنك الإسلامي ، ويبقى على المشتري الأقساط التي هي أكثر من النقد الذي استلمه .
وثمة حيل أخرى منها أن يبيعك شيئا مع الدين ، فيداينك مبلغا ، ويبيعك مع الدين قلما بمائة دينار والثمن مؤجل ، والقلم لا يساوي دينارا ! ويقول هذا دين وبيع وهو في الحقيقة حيلة على الربا .
ومن الحيل الأخرى شركة هبتكو ، وتدعي أنها تعمل بالألبان فتأخذ أموالك وتعمل فيها وتعطيك 8% من رأس مالك الذي أعطيتهم ، إن أردت استرجاع مالك بعد الشهر الأول ، و25% في الثاني و60% في الثالث و100% بعد ثمانية أشهر .
وهذا شيء غير معقول ، ولابد أن في الأمر سرا ما ، والذي أشكل على الناس أنهم يمنحونك نسبة ، فظنوا أن هذا جائز ، وهم إنما يمنحونك نسبة من رأس المال لا من الربح فهو كالدين بفائدة ، بالإضافة أنهم يجعلون أموالهم في بنوك أوروبية تمنحهم أرباحا عالية بعد أشهر ، ومن غرائب شأنهم ، أنهم يشترطون أن لا يكون التحاكم إلا في مصر أو الكويت حيث القانون يصير من بعض الوجوه في صالح من يعلن إفلاسه ، وقد قيل أن لهم نشاطا في غسيل الأموال أيضا ، والحقيقة أنها شركة ربوية ، وأما ادعاؤها أنها تستثمر أموال المشتركين في التجارة ، فهو غطاء فقط.
ربا البيوع :
وينقسم إلى قسمين : ربا الفضل ، وربا النسيئة .
ولابد أن نقدم هذه المقدمة حتى نفهم ربا البيوع بقسميه .
ربا البيوع : هو ربا يجري عند التبايع بين أصناف محددة من الأموال ، تسمى الأموال الربوية ، وليس معنى الأموال الربوية هنا ، أي المحرمة لأنها كسب ربوي ، بل المعنى أن ربا البيوع يجري فيها إن تم التبايع فيما بينها بطريقة غير شرعية ، وحتى نعرف الطرق الشرعية للتبايع بين هذه السلع التي هي الأموال الربوية ، أولا نقسم الأموال إلى قسمين :
أحدهما : الأموال الربوية : وهي التي يجري فيها ربا البيوع .
الثاني : الأموال غير الربوية : وهي التي لا يجري فيها ربا البيوع ، وهي كل ما عدا الأموال الربوية .
وتنقسم الأموال الربوية إلى مجموعتين .
فلنسم المجموعة الأولى مجموعة ( أ )
أ – وهي تضم ما يلي :
الذهب ، الفضة ، الأوراق النقدية ، والعلة التي جمعت بين هذه الأصناف هي الثمنية أي كونها أثمانا للسلع ، ولهذا فكل عملة هي صنف مستقل ، فهذه المجموعة كبيرة العدد.
والقاعدة التي يجب أن تتبع هنا هي :
**** أنه إذا كان البيع بين نفس الصنف ( ذهب بذهب ، فضة بفضة ) وجب أن يكون الطرفان ، متماثلين بالوزن ، ووجب أيضا التقابض يدا بيد أيضا .
*** فإن عدم شرط التماثل ، سمى البيع ربا الفضل .
*** وأما إذا كان البيع بين صنفين مختلفين لكنهما من داخل المجموعة ( ذهب بفضة ، دينار بجنيه ، ذهب بدينار ، فضة بجنيه ) وجب التقابض يدا بيد ، ولا يشترط التماثل
*** وإن عدم شرط التقابض سمي البيع ربا النسيئة .
ولنسم المجموعة الثانية مجموعة ( ب )
وهي تضم :
الملح ، التمر ، البر ، الشعير ( والعلة هي مجموع الكيل أو الوزن مع الطعم ، فكل ما تنبته الأرض مما يكون فيه هذه العلة فهو داخل في هذه المجموعة )
وتجري هنا القاعدتان السابقتان في التبايع داخل هذه المجموعة أيضا .
**** أما عند التبايع بين أصناف المجموعتين ، أي صنف من المجموعـــــة ( أ) وصنف من المجموعة (ب) فلا يشترط التماثل في الوزن ، ولا يشترط التقابض في المجلس .
***فإن قال قائل : إذا أردت أن تشتري تمرا من نوع "خلاص" مثلا بتمر رديء ، فلابد أن يختلف الوزن أو الكيل في هذه الحالة ، فنقول : بع الأول بالأوراق النقدية ، ثم ابتع الصنف الثاني بالثمن الذي قبضته من بيع الصنف الأول الجيد حتى تخرج من الربا .
*** وقد يقول قائل عندي ذهب قديم وأريد جديدا ، فنقول لا يصح التبايع بين الذهب والذهب إلا بالتساوي ، أو تبيع القديم بنقد ثم تشتري بالنقد الجديد ، ولو شرط البائع أن لا تشتري إلا من عنده لم يصح أيضا .
*** وهنا مسألة مشهورة : وهي هل يجوز شراء الذهب بالفيزا إذا كانت القيمة تخصم فورا من حساب المشتري ، فنقول : نعم إذا كان يخصم فورا ، فكأنه تقابض .
وكذلك ترد مسألة الحوالات للعملات بين الدول ، فمن يريد تحويل الدينار إلى جنيه في مصر ، وتصل إلى مصر بعد يومين أو أكثر ، فهل يصح ذلك مع أننا نعلم أنه يشترط التقابض في المجلس ؟ لأنهما مشتركان في علة الربا فكلاهما من نفس المجموعة التي علتها الثمنية ؟
قال بعض العلماء أن الحوالة لا تصح ، ولكن الحاجة ملحة ، وهي حاجة عامة ، فتنزل منزلة الضرورة .
ولا ريب أن هذا صحيح ، ذلك أن بعض الدول يقوم اقتصادها على تحويل العملة من الخارج .
وقال بعض العلماء أن هذه العملية وهي الحوالة ، تتضمن صرفا أي تبايعا بين عملتين ، وتوكيلا من أحد الطرفين للطرف الآخر ، أو استئجارا له ، بالقيام بإرسال العملة التي اشتراها ، إلى بلد أخر مقابل عمولة ، فهي عملية جائزة لا إشكال فيها ، من يأخذ منك الدينار ثم يحوله إلى جنيه فكأنك قبضت الجنيه ، ثم وكلته عنك في توصيل هذا المال إلى بلدك ، وهذا تخريج صحيح ويرفع الحرج خاصة في هذا الزمان ، إن شاء الله تعالى .
*** ومثال آخر : لديك بطاقة ائتمان ( فيزا ) وسافرت وانقطع بك السبيل ، فيمكنك أن تسحب على بطاقتك على المكشوف من عملة ثانية ، فيعطونك بالدولار ثم يأخذون من رصيدك بالدينار مع فارق العملة ويعتبرونه بيعا ، فهل حصل التقابض هنا ، ومن أهل العلم من قال إن هذه العملية ، مركبة من أن المصرف يداينك الدنانير ثم يقوم بالصرف مع البنك الذي سحبت منه بالفيزا ، ويتوكل عنك في هذا البيع ، وتستلم أنت العملة الأخرى ، ثم يأتي فيما بعد ، ويقبض دينه ، ويأخذ أجر وكالته ، فأجازوه من هذا الباب .
*** كما أثيرت هنا مسألة شراء الذهب بالشيك ، ولكن الشيك لا يفي بشرط التقابض ، فإنه لو كان بغير رصيد لا يستفيد منه ، وإنما يحب التقابض بالمال والشيك ليس مالا بل ورقة تأخذ بموجبها المال ، ولذا فشراء الذهب بالشيكات لا يجوز .
*** لكن بعض الناس يقول : يمكن لصاحب محل الذهب أن يتصل بالبنك ، ويتأكد من وجود رصيد للشيك ، ويحجز المبلغ من رصيد العميل لصالحه ، بالاتفاق مع البنك على طريقة يتم بها ذلك ، ففي هذه الحالة نقول يجوز ، ويكون بمثابة التقابض.
**** وأما التبايع بين الأموال الربوية وغير الربوية فلا يشترط أيضا التماثل في الوزن ولا الكيل ولا التقابض في المجلس ، مثلا تشتري سيارات بأوراق نقدية ، أو تشتري ثياب بذهب ، وأكثر التبايع إنما يكون في هذه الدائرة التي لايجري فيها ربا البيوع .
**** وكذلك داخل الأموال غير الربوية : وهي كل الأموال غير الأموال الربوية ، كالخام والطابوق والسيارات والفاكهة وغيرها ، كلها لا يشترط بينها ، التماثل ولا التقابض .
* ويرد سؤال : هل هناك أموال نضيفها على الأموال الربوية أم هي مقصورة على هذه الأصناف الستة ؟
هناك أقوال عدة لأهل العلم :
1- مذهب الظاهرية أنها الأصناف الستة فقط ( الذهب ، الفضة ، البر ، الشعير ، التمر ، الملح ).
2- قال بعض العلماء كل ما يجري فيه الكيل يضاف إلى الأصناف الأربعة البر الشعير والتمر والملح ، وقال بعضهم ما يجري فيه الوزن ، وقال غيرهم كل مطعوم .
3- وبعضهم كالأحناف زاد فقال كل خارج من الأرض .
4- ومنهم من قال مجموع الكيل أو الوزن مع كونها مطعومة ، فيدخل هنا في المجموعة ب : الأرز والفول والعدس والذرة والسكر والعسل والحليب ، فهي مكيلة أو موزونة مطعومة .
أما علة جريان الربا في المجموعة ( أ ) فهي الثمنية ، فكون الذهب والفضة أثمانا للأشياء أجرى فيها الربا ، ولذا قيل إن الأوراق النقدية أيضا أثمان فيجري فيها الربا ، وهذا هو الصحيح ، وقد اتفق عامة فقهاء العصر على أن الأوراق النقدية ، تقاس على الذهب والفضة ، وتجري عليها أحكامها في الزكاة والربا ، وهذا هو الصحيح الذي لا يستقيم سواه .
وأحكام ربا البيوع ، مأخوذة من حديث أبي سعيد الخدري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء فمن زاد أو استزاد فقد أربى ) وفي رواية ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ) ، رواه البخاري هذا مع اشتراكهم في علة الربا في نفس المجموعة والله أعلم .
*****
وهنا قاعدة مهمة جدا في باب الربا وهي : أن الجهل بالتماثل بمنزلة العلم بالتفاضل .
وهذا يعني أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( ... مثلا بمثل سواء بسواء ) في البيع بين أفراد الصنف الواحد ، أن جهلنا بكونهما متساويين ، هو كعلمنا بتفاضلهما .
ونذكر بعض الأمثلة :
المثال الأول : بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه لا يجوز .
المثال الثاني : بيع الرطب باليابس من جنسه ( المزابنة ) لا يجوز .
ومثاله بيع التمر بالرطب ، والزبيب بالعنب ، فلا يجوز حتى عند التماثل ، لأنهما في الحقيقة تماثل في الظاهر ، ولكنهما غير متماثلين ، فأحدهما معه من غير جنسه عندما يكون رطبا ، فإن معه الماء .
المثال الثالث : بيع اللحم باللحم بعظمه لا يجوز ، وقد ورد النهي عن بيع الحيوان باللحم لهذا السبب.
ذلك أن وجود العظم يؤدي إلى عدم العلم بالتماثل ، وكذا الرطب باليابس ، فلا يعلم تساويها ، فهو كعلمنا بتفاضلهما ، وحتى لو قلنا نزيد العنب قليلا فلا سبيل لمعرفة التماثل بالضبط .
ولكن هنا استثناء مهم ، وهو استثناء بيع التمر بالرطب فقط ، حيث كان التمر هو القوت الأساسي في زمن النبوة ، كما قالت عائشــــــــة رضي الله عنها : ( والله يا ابن أختي ! إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ؛ ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقد في أبيات رسول الله نار .قلت :يا خالة ! فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء ، إلا أنه كان لرسول الله جيران من الأنصار ، وكانت لهم منايح ، فكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقيناه ) [ متفق عليه ] ، وتأملوا يا أخواني أولئك الرجال الذين كان أكثر طعامهم التمر والماء ، كما ورد في الأثر : ( كنت جالساً مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق ، فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب فنزلوا ، قال حميد : فقال أبو هريرة : اذهب إلى أمي وقل لها : إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئاً، قال: فوضعت ثلاثة أقراص من شعير وشيئاً من زيت وملح في صحفة، فوضعتها على رأسي، فحملتها إليهم، فلما وضعته بين أيديهم، كبر أبو هريرة وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودان؛ التمر والماء، فلم يصب القوم من الطعام شيئاً ! فلما انصرفوا قال: يا ابن أخي! أحسن إلى غنمك ، وامسح الرغام عنها، واطلب مرشكراا، وصل في ناحيتها؟ فإنها من دواب الجنة، والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان ، تكون الثلة من الغنم، أحب إلى صاحبها من دار مروان ) [رواه البخاري في الأدب المفرد] ، كيف أن أولئك الرجال الذين كان هذا طعامهم فتحوا الدنيا وملؤها نورا وعلما وهدى .
والمقصود أن الرطب أحسن من التمر ، ومن الناس من لديه التمر ويريد الرطب وليس لديه نقود ، فهنا حاجة ماسة للحصول على الرطب وهي حاجة عامة .
فرخصت الشريعة ببيع التمر بالرطب في ما يطلق عليه (العرايا ) ، وهي أن يشترى التمر بالرطب على النخل ، يخرص فيجعل مقابل وزنه تمرا ، بشرطين :
الأول : الحاجة فلا تباع لغني ولكن لم يحتاج إلى أكلها رطبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص بها لأهل الحاجة ، الثاني : أن يكون أقل من خمسة أوسق ، ولا يجوز التفرق قبل القبض أيضا .
وفي ذلك ورد حديث سهل بن أبي حثمة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبا ) [ متفق عليه ].
وعن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق ) [ متفق عليه ]
وهنا مسألة مشهورة عند الفقهاء ، وهي مسألة ( مد عجوة ودرهم ) ويطلق عليها الفقهاء ( بيع ربوي بجنسه ، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ).
ومثاله : يبع مد تمر مثلا " والمد مقدار من كيل " ودرهم ، مقابل درهمين
يقول العلماء : لم يتميز ما يقابل الدرهم من جميع الدرهمين ، ولا ما يقابل المد ، وإنما الجملة مقابل الجملة ، فلاتحصل المماثلة بين الجنسين ، بما يقابل كل جنس من جنسه .
وكذلك يجري هذا الإشكال في : بيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم ؟ أو كيلو من التمر ودينار ذهب بمثلهما ؟
قال أهل العلم يحرم هذا لأنه يدخل في قاعدة الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل ، وحسما لمادة الربا ، فهو يفتح باب التحايل .
وقد ورد في ذلك حديث فضالة ( أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب ، وخرز اشتراها رجل بتسعة دنانير ، أو سبعة ، فقال صلى الله عليه وسلــم : لا ، حتى تميز بينهما ، قال : فرده حتى ميز بينهما ) [ رواه أبو داود ] ، ولمسلــــم ( أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع حده ، ثم قال : الذهب بالذهب وزنا بوزن ) .
ولكن يوجد رواية عن الإمام احمد ـ وقد اختارها شيخ الإسلام ـ أن المفرد إذا كان أكثر من الذي معه غيره ، فإن ذلك جائز ، وكذلك إذا كان مع كل واحد منهما من غير جنسه وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقد سئل شيخ الإسلام عن بيع الاكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية ، مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب ، بل فضة هذه الدراهم أكثر ، هل يجوز المقابضة بينهما ؟ أم لا ؟
فأجاب : هذه المقابضة تجوز في أظهر قولي العلماء ، والجواز فيه له مأخذان : بل ثلاثة :
أحدهما : إن هذه الفضة معها نحاس ، وتلك فضة خالصة ، والفضة المقرونة بالنحاس أقل ، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين ، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة ( مد عجوة ) كما مذهب أبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين .
ثم ذكر حديث القلادة الآنف الذكر و قال :
وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي ، بل يخرص خرصا ، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين ، وفيها خرز معلق بذهب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لاتباع حتى تفصل ) فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل ، لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون ، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله ، وزيادة خرز ، وهذا لا يجوز .
وإذا علم المأخذ ، فإذا كان المقصود ببيع دراهم بدراهم مثلها ، وكان المفرد أكثر من المخلوط ، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة ، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط ، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء ، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها ، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك فيجوز التفاوت " [مجموع الفتاوى 29/454]